فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{ويوم يناديهم} أي: الله تعالى وهم بحيث يسمعهم الداعي وينفذهم البصر قد برزوا لله جميعًا من كان منهم عاصيًا ومن كان منهم مطيعًا في صعيد واحد قد أخذنا بأنفاسهم الزحام وتراكب الأقدام على الأقدام وألجمهم العرق وعمهم الغرق {فيقول ماذا} أي: أوضحوا وعينوا جوابكم الذي {أجبتم المرسلين} إليكم، تنبيه: ويوم معطوف على الأوّل فإنه تعالى يسأل عن إشراكهم به ثم تكذيبهم الأنبياء ولما لم يكن لهم قدم صدق ولا سابق حق بما أتتهم الرسل به من الحجج لم يكن لهم جواب إلا السكوت وهو المراد بقوله تعالى: {فعميت} أي: خفيت وأظلمت {عليهم الأنباء} أي: الأخبار المنجية {يومئذ} التي هي من العظمة بحيث يحق لها في ذلك اليوم أن تذكر، تنبيه: الأصل فعموا عن الأنباء لكنه عكس مبالغة ودلالة على أن ما يحضر الذهن إنما يفيض ويرد عليه من خارج وإذا أخطأه لم يكن له حيلة إلى استحضاره وإذا كان الرسل عليهم الصلاة والسلام في ذلك اليوم يفوِّضون إلى علم الله تعالى فما ظنك بالضلال فلهذا قال تعالى: {فهم لا يتساءلون} أي: لا يسأل بعضهم بعضًا عن الجواب لفرط الدهشة أو للعلم بأنه مثله هذا حال من أصر على كفره.
{فأما من تاب} عنه وقوله تعالى: {وآمن} تصريح بما علم التزامًا فإن الكفر والإيمان ضدّان لا يمكن ترك أحدهما إلا بأخذ الآخر وقوله تعالى: {وعمل صالحًا} لأجل أن يكون مصدقًا لدعواه باللسان {فعسى} إذا فعل ذلك {أن يكون من المفلحين} عند الله وعسى تحقيق على عادة الكرام، أو ترجّ من التائب بمعنى فليتوقع أن يفلح، ولما كان كأنه قيل ما لأهل القسم الأوّل لا يتوخون النجاة من ضيق ذلك البلاء إلى رحب هذا الرجاء وكان الجواب ربك منعهم من ذلك، وما له لم يقطع لهذا القسم بالفلاح كما قطع لأهل القسم الأوّل بالشقاء كان الجواب.
{وربك يخلق ما يشاء ويختار} لا موجب عليه ولا مانع له {ما كان لهم الخيرة} أي: أن يفعلوا يفعل لهم كل ما يختارونه، تنبيه: الخيرة بمعنى التخير كالطيرة بمعنى التطير، وظاهره نفي الاختيار عنهم رأسًا، قال البيضاوي والأمر كذلك عند التحقيق فإن اختيار العبيد مخلوق منوط بدواع لا اختيار لهم فيها، وقال الرازي في اللوامع: وفيه دليل على أنّ العبد في اختياره غير مختار فلهذا أهل الرضا حطوا الرحال بين يدي ربهم وسلموا الأمور إليه بصفاء التفويض يعني فإن أمرهم أو نهاهم بادروا وإن أصابهم سهام المصائب العظام صابروا وإن أعزهم أعزوا أنفسهم وأكرموا وإن أذلهم رضوا وسلموا فلا يرضيهم إلا ما يرضيه ولا يريدون إلا ما يريده فيمضيه، قال القائل:
وقف الهوى لي حيث أنت فليس لي ** متأخر عنه ولا متقدّم

أجد الملامة في هواك لذيذة ** حبًا لذكرك فليلمني اللوّم

وأهنتني فأهنت نفسي صاغرًا ** ما من يهون عليك ممن يكرم

وقيل ما موصولة مفعول ليختار والراجع محذوف، والمعنى ويختار الذي كان لهم فيه الخيرة أي: الخير والصلاح {سبحان الله} تنزيهًا له أن يزاحمه أحد أو ينازع اختياره {وتعالى} أي: علا علوًا لا تبلغ العقول توجيه كنه مداه {عما يشركون} أي: عن إشراكهم أو مشاركة ما يشاركونه به، ولما كانت القدرة لا تتم إلا بالعلم قال تعالى: {وربك} أي: المحسن إليك المتولي أمر تربيتك {يعلم ما تكنّ} أي: تخفي وتستر {صدورهم} من كونهم يؤمنون على تقدير أن تأتيهم آيات مثل آيات موسى عليه السلام، أو لا يؤمنون ومن كون ما أظهر من أظهر الإيمان بلسانه خالصًا أو مشوبًا، ومن كونهم يخفون عداوة الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ: {وما يعلنون} أي: يظهرون من ذلك كل ذلك لديه سواء فلا يكون لهم مراد إلا يخلقه، فإن قيل هلا اكتفى بقوله تعالى: {ما تكنّ صدورهم} عن قوله: {وما يعلنون} أجيب: بأنّ علم الخفي لا يستلزم علم الجليّ إما لبعد أو لغط أو اختلاط أصوات يمنع تمييز بعضه عن بعض أو غير ذلك، ولما كان علمه تعالى بذلك إنما هو لكونه إلهًا واحدًا فردًا صمدًا وكان غيره لا يعلم من علمه إلا ما علمه قال تعالى: {وهو الله} أي: المستأثر بالإلهية الذي لا سميّ له الذي لا يحيط الواصفون بكنه عظمته، ثم شرح معنى الاسم الأعظم بقوله تعالى: {لا إله إلا هو} وهذا تنبيه على كونه قادرًا على كل الممكنات عالمًا بكل المعلومات منزهًا عن النقائص والآفات، ثم علل ذلك بقوله تعالى: {له} أي: وحده {الحمد} أي: الإحاطة بأوصاف الكمال {في الأولى والآخرة} لأنه المولى للنعم كلها عاجلها وآجلها يحمده المؤمنون في الآخرة كما حمدوه في الدنيا، فإن قيل الحمد في الدنيا ظاهر فما الحمد في الآخرة؟
أجيب: بأنهم يحمدونه بقولهم {الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن}.
{الحمد لله الذي صدقنا وعده}.
{وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين}.
والتوحيد هناك على وجه اللذة لا الكلفة، وفي الحديث يلهمون التسبيح والتقديس {وله الحكم} أي: القضاء النافذ في كل شيء وقال ابن عباس: حكم لأهل الطاعة بالمغفرة ولأهل المعصية بالشقاء {وإليه} لا إلى غيره {ترجعون} أي: بأيسر أمر يوم النفخ في الصور لبعثرة ما في القبور، بالبعث والنشور مع أنكم الآن راجعون في جميع أحكامكم إليه، ومقصورون عليه إن شاء أمضاها وإن أراد ردّها ولواها ففي الآية غاية التقوية لقلوب المطيعين ونهاية الزجر والردع للمتمردين، ثم بين سبحانه وتعالى بعض ما يجب أن يحمد عليه مما لا يقدر عليه سواه بقوله تعالى: {قل} أي: يا أفضل الخلق لأهل مكة {أرأيتم} أي: أخبروني {إن جعل الله} أي: الملك الأعلى {عليكم الليل} أي: الذي به اعتدال حرّ النهار {سرمدًا} أي: دائمًا {إلى يوم القيامة} لا نهار معه {من إله غير الله} أي: العظيم الشأن الذي لا كفء له {يأتيكم بضياء} أي: بنهار تطلبون فيه المعيشة {أفلا تسمعون} أي: ما يقال لكم سماع إصغاء وتدبر.
{قل أرأيتم إن جعل الله} أي: الذي له الأمر كله {عليكم النهار} أي: الذي توازن حرارته برطوبة الليل فيتمّ بها صلاح النبات وغير ذلك من جميع المقدّرات {سرمدًا} أي: دائمًا {إلى يوم القيامة} لا ليل فيه {من إله غير الله} أي: الجليل الذي ليس له مثل {يأتيكم بليل} أي: ينشأ منه ظلام {تسكنون فيه} استراحة عن متاعب الأشغال، فإن قيل هلا قيل بنهار تتصرفون فيه كما قيل بليل تسكنون فيه؟
أجيب: بأنه تعالى ذكر الضياء وهو ضوء الشمس لأنّ المنافع التي تتعلق به متكاثرة ليس التصرف في المعايش وحده والظلام ليس بتلك المنزلة ومن ثمّ قرن بالضياء {أفلا تسمعون} لأن السمع يدرك ما لا يدرك البصر من ذلك منافعه ووصف فوائده وقرن بالليل {أفلا تبصرون} لأن غيرك يبصر من منفعة الظلام ما تبصره أنت من السكون، قال البقاعي: فالآية من الاحتباك ذكر الضياء أولًا دليلًا على حذف الظلام ثانيًا والليل والسكون ثانيًا دليلًا على حذف النهار والانتشار أوّلًا ولما كان التقدير ومن رحمته جعل لكم السمع والأبصار لتتدبروا آياته وتبصروا في مصنوعاته عطف عليه.
{ومن رحمته} أي: التي وسعت كل شيء لا من غيرها من خوف أو رجاء أو تعلق غرض من الأغراض {جعل لكم الليل والنهار} آيتين عظيمتين دبر فيها وبهما جميع مصالحكم فجعل آية الليل {لتسكنوا فيه} فلا تسعوا فيه لمعاشكم {و} جعل آية النهار مبصرة {لتبتغوا من فضله} بأن تسعوا في معاشكم بجهدكم، قال البقاعي: فالآية من الاحتباك ذكر أوّلًا السكون دليلًا على حذف السعي في المعاش ثانيًا وذكر الابتغاء من فضله ثانيًا دليلًا على حذف عدم السعي في المعاش أوّلًا {ولعلكم تشكرون} أي: وليكون حالكم حال من يرجى منه الشكر لما يتجدد لكم من تقلبهما من النعم المتوالية التي لا يحصرها إلا خالقها، وأما الآخرة فلما كانت غير مبنية على الأسباب وكانت الجنة لا تعب فيها بوجه كان لا حاجة فيها لليل.
{ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون} تقريع بعد تقريع للإشعار بأنه لا شيء أجلب لغضب الله تعالى من الإشراك به كما أنه لا شيء أدخل في مرضاته من توحيده، اللهمّ فكما أدخلتنا في أهل توحيدك فأدخلنا في الناجين من وعيدك ومتعنا بالنظر إلى وجهك الكريم يا أرحم الراحمين، ويحتمل أن يكون الأوّل لتقرير فساد رأيهم والثاني لبيان أنه لم يكن عن سند وإنما كان محض تَشَهِّ: وهوى، أو أنه ذكر الثاني كما قال الجلال المحلي ليبنى عليه.
{ونزعنا} أي: أخرجنا وأفردنا بقوّة وسطوة {من كل أمة شهيدًا} أي: وهو رسولهم يشهد عليهم بما قالوه {فقلنا} أي: فتسبب عن ذلك أن قلنا للأمم {هاتوا برهانكم} أي: دليلكم القطعي الذي فزعتم في الدنيا إليه وعوّلتم في شرككم عليه كما هو شأن ذوي العقول أنهم لا يبنون شيئًا على غير أساس {فعلموا} أي: بسبب هذا السؤال لمَّا اضطروا ولم يجدوا لهم سندًا {أن الحق} في الإلهية {لله} أي: الملك الذي له الأمر كله لا يشاركه فيه أحد {وضل عنهم} أي: غاب غيبة الضائع {ما كانوا يفترون} أي: يقولونه قول الكاذب المتعمد للكذب لكونه لا دليل عليه ولا شبهة للغلط فيه. اهـ.

.قال القاسمي:

{وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أي: أنزلنا عليهم القرآن متواصلًا، بعضه إثر بعض، وعدًا ووعيدًا، وقصصًا وعبرًا، ومواعظ، حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة إرادة أن يتذكروا فيفلحوا. وقرئ وصّلنا بالتشديد والتخفيف: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ} أي: القرآن: {هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} وهم مؤمنو أهل الكتاب وأولياؤهم: {وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ} أي: القرآن: {قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ} أي: من قبل نزوله: {مُسْلِمِينَ} أي: منقادين له، لما عندنا من المبشِّرات به. أو على دين الإسلام، وهو إخلاص الوجه له تعالى بدون شرك: {أُولَئِكَ} أي: الموصوفون بما ذكر من النعوت: {يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} يعني مرة على إيمانهم بكتابهم، ومرة على إيمانهم بالقرآن: {بِمَا صَبَرُوا} أي: بصبرهم وثباتهم على الإيمانيْن. أو على الإيمان بالقرآن قبل النزول وبعده. أو على أذى من نابذهم: {وَيَدْرَأُونَ} أي: يدفعون: {بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} أي: بالحكمة الطيبة، ما يسوؤهم: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} أي: للبؤساء والفقراء، وفي سبيل البرّ والخير، فرارًا عن وصمة الشحّ، وتنبهًا لآفاته.
{وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ} أي: من الجهال. وهو كل ما حقه أن يلغى ويترك، من العبث وغيره: {أَعْرَضُوا عَنْهُ} أي: تكريمًا للنفس عن ملابسة الأدنياء، وتشريفًا للسمع عن سقط باطلهم: {وَقَالُوا} أي: لهم: {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ} أي: بطريق التوديع والمتاركة؛ وعن الحسن رضي الله عنه: كلمة حلم المؤمنين: {لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} أي: لا نريد مخالطتهم وصحبتهم، ولا نريد مجازاتهم بالباطل على باطلهم. فال الرازيّ: قال قوم: نسخ ذلك بالأمر بالقتال. وهو بعيد. لأن ترك المسافهة مندوب. وإن كان القتال واجبًا.
تنبيه:
قال ابن كثير عن سعيد بن جبير: إنها نزلت في سبعين من القسيسين. بعثهم النجاشي. فلما قدموا النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ عليهم: {يَس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [يّس: 1 2]، حتى ختمها. فجعلوا يبكون وأسلموا.
وقال محمد بن إسحاق في السيرة: ثم قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة، عشرون رجلًا أو قريب من ذلك من النصارى، حين بلغهم خبره من الحبشة. فوجدوه في المسجد. فجلسوا إليه وكلّموه وسألوه. ورجال من قريش في أنديتهم. حول الكعبة. فلما فرغوا من مساءلة رسول الله صلى الله عليه وسلم عما أرادوا، دعاهم إلى الله تعالى وتلا عليهم القرآن. فلما سمعوا القرآن. فلما سمعوا القرآن فاضت أعينهم من الدمع. ثم استجابوا لله وآمنوا به، وصدقوه وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره. فلما قاموا عنه اعترضهم أبو جهل بن هشام في نفر من قريش. فقالوا لهم: خَيّبكم الله من ركب. بعثكم مَن وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم، لتأتوهم بخير الرجل. فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه فيما قال. ما نعلم ركبًا أحمق منكم. أو كما قالوا لهم. فقالوا لهم: سلام عليكم. لا نجاهلكم. لنا ما نحن عليه، ولكم ما أنتم عليه، لم نأل أنفسنا خيرًا.
قال: ويقال إن النفر النصارى من أهل نجران. فالله أعلم أي: ذلك كان.
قال: ويقال، والله أعلم، إن فيهم نزلت هذه الآيات: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} إلى قوله: {لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ}.
قال: وسألت الزهري عن الآيات فيمن نزلت؟ قال: ما زلت أسمع من علمائنا أنهن نزلن في النجاشي وأصحابه رضي الله عنهم. والآيات اللاتي في سورة المائدة: {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا} [المائدة: 82]، إلى قوله: {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة: 83].